05 Nov 2015

صاحبة السمو الملكي الأميرة هيا بنت الحسين تلقي كلمة خلال مؤتمر "الوحدة في التنوع" في مدينة فلورنسا الإيطالية

الضيوف الأكارم؛

السيدات والسادة؛

 

من هم الأشخاص الذين يتعيّن عليهم الاجتماع من أجل التعاون ومجابهة أكثر المشاكل إلحاحاً التي تواجه العالم اليوم، فهل هناك أحد أفضل من الأشخاص الذين يحكمون مُدننا؟

وهل هناك مدينة أجمل من فلورنسا لتحتضن هذه النقاشات؟

لقد جئتم من جميع أنحاء العالم لتعزيز الحوار بين المجتمعات، حيث أن الوحدة في التنوع. وأنا أقف اليوم بتواضع أمام مثل هذه المجموعة الملهمة من القادة بصفتي سفيرة الأمم المتحدة للسلام.

اسمحوا لي أن أتقدم بخالص الشكر إلى العمدة نارديلا، وصديقتي العزيزة نيكوليتا بافاروتي لدعوتي للانضمام إليكم في هذا المحفل.

وكما قال العمدة نارديلا منذ لحظات، فإن المدن وعُمدها متواجدون في الخطوط الأمامية. وبإمكان التغيير أن يبدأ على المستوى المحلي. إذ أنه من المعروف أن عُمد المدن قادرين على إنجاز المهام، بدءاً من صيانة الحفر في الشوارع إلى تعليم الأطفال، ومن العمل على طمأنة المواطنين الذين لديهم مخاوف ما، ووصولاً إلى الترحيب بالوافدين الجدد الذين يسهمون بدورهم في تأسيس ثقافة مدنهم.

وقد قال الرئيس الأمريكي ليندون بي جونسون ذات مرة: "عندما تبدو أعباء الرئاسة ثقيلة بشكل غير معتاد، فإني أُذكِّر نفسي دائماً بأن الأمور بإمكانها أن تكون أسوأ، فقد أكون عمدة مدينة."

كما قال المنظر السياسي بنجامين باربر مؤخراً على منصة مؤتمر تيد TED أن عُمد المدن ينبغي أن يحكموا العالم، مشيراً إلى أن "هنالك الكثير مما يمكن للمدن أن تفعله، حتى عندما ترفض الدول العنيدة أن تتصرف.".

بيد أن الخطاب الشعبي غالباً ما يوحي بأن موضوع هذا المؤتمر - "الوحدة في التنوع" - تقدُّمي نوعاً ما؛ أو ربما جديد. ولكن في الحقيقة، فإن هذا المفهوم يعود إلى العصور القديمة في كل من الثقافتين الغربية والشرقية في العالم القديم، كما أن العبارة المرتبطة بهذا الموضوع هي شعار قديم لكثير من الدول.

ووفقاً لهذا المفهوم، فإن عبارة "الوحدة في التنوع" تنقل التركيز من مصطلح الوحدة المبنية على أساس التسامح البحت مع الاختلافات إلى مفهوم جديد أكثر تعقيداً ودقة يقوم على أساس الفهم أن الاختلافات تُثري التفاعل البشري. ولكن، على الرغم من أن المفهوم نفسه قد يكون قديماً، فقد تكون الضرورة الملحة لقبوله هي التطور الجديد الآن.

ولا يوجد مكان أكثر أهمية لمفهوم الوحدة في التنوع أكثر من مُدُنِنا.

ويواجه الكثيرون منكم اليوم مشاكل تتعلق بالتدفقات الكبيرة للاجئين إلى مُدنِكم. حيث أن وصول عشرات الآلاف من المهاجرين من أفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا يشكّل مصدر قلق كبير في جميع أنحاء القارة.

غير أن الانقسامات قد بدأت تظهر في الكثير من مدن العالم ومنذ وقت طويل قبل أن تظهر مشكلة اللاجئين، إذ تطورت المدن داخل المدن، ولكنها منفصلة من حيث اللغة أو العرق أو الدين، بينما تتفكك العديد من المدن الكبرى إلى مجتمعات لا تثق ببعضها البعض.

إنني لا أعتقد أنه من الممكن مواكبة أياً من التحديات المعقدة التي تواجه المدن الحديثة بشكل فعال دون وجود شعور حقيقي بالوحدة والتماسك في التنوع، وهنا تكمن أهمية لقائنا اليوم.

ولكن، وفي كثير من الأحيان، يبدو مفهوم الوحدة في التنوع أقرب إلى السراب الذي يلوح بالأفق، ولكنه مراوغ وبعيد المنال عند السعي وراءه.

ومع ذلك، أرجو ألا تعتقدوا ولو لدقيقة واحدة بأن الأمر مستحيل.

فبناء على تجربتي في مدينة تحدت الصعاب مرات عديدة وعلى مدى أكثر من قرن، فإنني أعتقد أنه عندما توجد هناك رؤية سديدة وقيادة متحمسة ملتزمة بتوفير أفضل الفرص لشعبها، وفي ظل وجود ثقافة الانفتاح، فإن كل شيء يُصبح ممكناً.

ومنذ زمن ليس ببعيد، لم تكن دبي تشبه تلك المدن المكتظة بالزوار، ولكن الآن يستمتع المقيمون بالمدينة. وكان المطار يتكون من مدرج إقلاع وهبوط واحد من الرمال الصلبة المضغوطة، وكان معظم السكان يقطنون في مساكن بسيطة مصنوعة من سعف النخيل.

لقد كانت البلدة – وهذا كل ما كانت في حينه - تتقاطع عبر متاهة من الشوارع الصغيرة والأزقة. وبعد حلول الظلام، كان الحراس يعملون على حماية المحلات التجارية، حيث كان كل منهم يراقب أكثر من 10 إلى 12 محلاً تجارياً، بل كانوا يهزون الأقفال للتأكد من أنها كانت مغلقة بشكل صحيح.

وكان الضوء الوحيد يأتي من مصابيح الزيت التي تصدر صوتاً أمام المنازل والمحلات التجارية الأكثر ازدهاراً، حيث كان الضوء الذهبي الناعم الجميل المنبعث من تلك المصابيح يعبر عن تناقض صارخ مع الحياة اليومية الصعبة.

لقد كانت دبي مكاناً للفقر والمعاناة الطاحنة وسوء التغذية وارتفاع معدلات وفيات الرضع. وكانت الملاريا رفيقة للسكان، لأن مياه الشرب الملوثة المستخرجة من الآبار كانت دائماً مهددة بالتلوث بالملح.

ولكن اليوم، فإن هذه المدينة المتلألئة التي تزدهر بشكل مدهش وسط الصحراء العربية، هي مدينة حديثة تجسِّد مفهوم الوحدة في التنوع.

لقد شكّل التاريخ الحديث التغييرات في دبي بطرق قد تبدو أشبه بالمعجزة إلى حد ما، ولكن ربما إذا أخذنا في الاعتبار كيفية تغيُّر الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية باستمرار، مثل رمال الصحراء، فإن قصة دبي لا تكون مثيرة للدهشة عندئذ.

ولكن، وعلى الصعيد العملي، فإن أطراف المشهد في الصحراء كانت تاريخياً تعني أن التعاون والمجتمع كانا أمرين حيويين من أجل البقاء، وبالإضافة إلى ذلك فإن الرمال المتحركة في الصحراء قد أصبحت رمزاً لروح ثقافية أوسع نطاقا بحيث تتوقع التغيير وتتبناه.

إنني فخورة جداً بمدينة دبي، وهي مسقط رأسي بالتبني، ولكنني لا أتحدث عنها كثيراً في المحافل العالمية. ومع ذلك، وبالنظر إلى أن مفهوم الوحدة في التنوع يبدو لكثير من الناس عبارة عن سراب بعيد المنال، أود أن أشارككم ببعض الإيضاءات حول قصة دبي وكيف تمكّن حكامها من تحقيق رؤيتهم المتمثلة في الربط بين الناس في بيئة تحتضن الوحدة في التنوع.

وخلافاً للاعتقاد الشائع بين الناس، لم تظهر دبي كمدينة حديثة بين عشية وضحاها، ولم يكن مجتمعها متعدد الثقافات بالمصادفة أو الصدفة. إذ تعود رؤية دبي للربط بين الناس إلى أوائل القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت تحولها من قرية صيد إلى واحدة من أكثر المدن حيوية في العالم، إلا أن بعض الأمور لم تتغير خلال قرنين من حكم عائلة آل مكتوم.

إن القيم التي سادت في العصور السابقة – مثل أهمية العائلة والإيمان والتقاليد العربية التي تتمثل في الشرف وحسن الضيافة المتجذرة في ثقافتنا البدوية – لم تتغير إلى الآن. فعندما تتذكر من أين جئت، يمكنك الذهاب عندئذ إلى أي مكان.

لقد أدركت عائلة آل مكتوم في وقت مبكر أن المستقبل يعتمد بشكل كبير على الأشخاص الذين مروا من دبي وأقاموا فيها؛ ويعتمد على الأشخاص الذين احتاجوا إلى الشعور بأنهم أحرار في تحقيق الازدهار والنجاح من دون مخاطر.

وقد كان انهيار صناعة اللؤلؤ القديمة كارثياً بالنسبة للمنطقة، ولكن دبي لم تتأثر بقدر ما تأثرت أجزاء أخرى من المنطقة، وذلك بفضل مينائها التجاري الحر الذي كان مخططاً له مسبقاً، وأصبحت معروفة بشكل متزايد كمكان يربط بين الناس.

وعلى الرغم من الاعتقاد الخاطئ بأن دبي تعتمد على النفط، غير أن الحقيقة تفيد بأن هناك فقط ما نسبته 5% من الناتج الاقتصادي في دبي مصدره قطاع الطاقة؛ إذ تُشكل التجارة والسياحة والقطاع المالي ثروة هذه المدينة. وقد نمت هذه الثروة بفضل مزيج فريد من السياسات الاقتصادية والاجتماعية المُطبّقة.

إن الأمر لم يكن سهلاً، فبدءاً من الصراع من أجل البقاء ضد العديد من العوامل، ومروراً بمرحلة البناء من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية من خلال التغلب على الجوع والفقر، والعمل على منع العنف وغرس السلام خلال أقل من جيل، فقد نجحت دبي في بناء نجاحها الباهر.

لا يمكنني إلا أن أكون فخورة جداً بزوجي، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي أدّت رؤيته وإصراره إلى تحوّل دبي إلى مدينة عالمية مزدهرة كما هو حال المدينة اليوم.

إن الإماراتيون يعملون جنباً إلى جنب مع مزيج لا يصدق من أكثر من 190 جنسية يشكلون 80 في المائة من السكان في الإمارات؛ ويثري التسامح الديني والعرقي والاثني المدينة، ويسمح لها بجذب المواهب من جميع أنحاء العالم من أجل العمل في وئام.

إن الرغبة في التواصل مع العالم الأوسع نطاقاً هي الدافع إلى تنظيم معرض دبي إكسبو 2020، الذي يتمثل هدفه الأساسي في تعزيز الابتكار والشراكة مع جمهور عالمي تحت شعار "تواصل العقول وصنع المستقبل".

إن العالم مُتمثل في دبي، وأعتقد أن دبي تُعتبر من نواحٍ كثيرة، كصورة مصغرة للعالم الحديث.

إنني أتفهم أن احتضان دبي للتعددية الثقافية ليس، بالطبع، حلاً يناسب جميع المدن، لأنه لا يوجد حل موحّد ضمن "مقاس واحد يناسب الجميع". وبلا شك، فإن التحديات التي تواجه مدن العالم – وبالتالي تواجهكم أنتم عُمد هذه المدن – متزايدة، ومتحولة، ومتغيرة مثل رمال الصحراء. لكن آمل أن تجدوا بعضاً من الإلهام في قصة دبي.

إنني على يقين من القول المأثور: "ما يرهقك هو ليس الجبل الذي تحاول تسلقه ولكنها حبة الرمل الموجودة في حذائك". ولذلك، فإنني أعلم أنكم أنتم - عُمد مدن العالم - تواجهون ذلك، فإذا كانت الوحدة في التعدد هي الجبل، فإن العديد من القضايا اليومية الخاصة بمدنكم هي حبّات الرمل.

يا عُمد مدن العالم، إن مهمتكم رائعة حقاً. وإنني أتمنى لكم الشجاعة والرؤية والثقة، وأنتم ترفعون أعينكم إلى الجبال، وأتمنى لكم أن تجدو أحذية مريحة للتسلق.

وشكراً لكم.

-انتهى-