08 Nov 2015

صاحبة السمو الملكي الأميرة هيا تتسلم جائزة "جيجليو دي أورو" بمدينة فلورنسا الإيطالية، تقديراً لإسهاماتها البارزة في المجال الإنساني

الضيوف الأكارم؛

السيدات والسادة؛

يشرفني هذا التكريم للعمل الإنساني الذي أقوم به نيابةً عن صاحب السمو الشيخ محمد وعن الأمم المتحدة.

أشكركم جميعاً من أعماق قلبي. وسأحتفظ بهذه الجائزة دوماً، ليس من قبيل التذكير بكل ما تم إنجازه، ولكن كتذكير للجميع، بأنه لا يزال هناك الكثير الذي يتعين إنجازه.

أعتقد أن هذه الجائزة ستجد مكاناً لها بجوار ساعة رملية من الساعات التي أحبها وهي ساعة مليئة برمال من الصحراء العربية. إنها بهذا الحجم تقريباً، ويستغرق الأمر 15 دقيقة بالضبط ليستكمل انسياب الرمال من الجزء العلوي، عبر مساحة ضيفة في المنتصف إلى الجزء السفلي.

وفي بعض الأحيان، أقلب هذه الساعة وأتسابق مع حبيبات الرمل وأنا أؤدي مهمة معينة... أي مهمة، مثل محاولة التخفيف من كمّ الرسائل في صندوق البريد، إلى ترتيب غرفة المعيشة. وفي الحقيقة، أجد أن المهام المتأخرة أو الشاقة هي التي تُنجَز بدفعة من الشعور بالإلحاح.

ففي وقتٍ سابق من هذا الأسبوع، وأثناء حزم الحقائب استعداداً لهذه الرحلة، دخل ولدي الصغير زايد وأحاط بذراعيه الصغيرتين حول رجليّ وطلب مني أن ألعب معه. انحنيت إليه ووعدته بأني سألعب معه بمجرد انتهائي من تحضير الحقائب.

سألني: "ولكن متى يا ماما؟" قلت له: "بعد 15 دقيقة" وأنا أقلب الساعة الرملية.

دعوني أقول لكم، إن مدة ربع ساعة لا تعتبر فترة طويلة بالنسبة للسيدات عند حزم أمتعتهن.

بعد مرور ثلاث أو أربع دقائق كنت أجري مسرعةً، وعند الدقيقة الخامسة تقريباً كنت قد بدأت أتعرَّق من الجهد. وعندما نظرت إلى الساعة مجدداً، كانت كمية حبيبات الرمل متساوية تقريباً في الأجزاء العلوية والسفلية من الساعة الرملية. ولم يكن بوسعي أن أنتهي من مهمتي في الوقت المناسب.

اقترب زايد الذي كان يشاهد الموقف باستغراب، بهدوء من الساعة الرملية وأمسك بها ثم وضعها على جانبها.

"سأجعل الوقت ينتظر لأجلكِ يا ماما." قالها بأسلوب مذهل أعطى اللحظة مثالية وبراءة تامة لطفل في الثالثة من عمره.

ليت الأمر كان بهذه البساطة.

إنني أشعر بالتواضع حقاً لاستلامي هذه الجائزة اليوم، ولكنني أيضاً أشعر بأنني لا أستحقها. وسبب ذلك، في المقام الأول والأهم، هو أنني أعرف أنني لم أنجز ما يكفي من العمل في الوقت الذي كان متاحاً لي. وفي ظل اجتماعنا هنا الليلة لنتفكَّر للحظة في إنجازات الماضي، علينا أن نتيقن أن الساعة الرملية للإنسانية لم توضع على جانبها. وأن الفقر والجوع لا ينتظران ولا توجد هناك "فترة استراحة".

إن استمرار الجوع إلى يومنا هذا في عام 2015 يعبِّر عنّا أكثر بكثير مما يعبر عن هؤلاء الذين يعانون منه. والحقيقة هي أنه لطالما كان هناك في العالم أكثر مما يكفي من الغذاء لإطعام كل رجل وامرأة وطفل ولفترة تزيد عن نصف القرن. ونحن فقط لا نجيد مشاركة هذا الغذاء.

إن المستوى العالمي من المساعدات الغذائية والدعم الممنوح للزراعة في كل سنة لا يرتقي إلى المستوى الذي ينفقه العالم المتقدم على طعام الحيوانات الأليفة. ولا يكفي أننا لا نجيد مشاركة الغذاء، بل إننا نصعب عملية الكفاح للتخلص من الفقر بالنسبة للفقراء وخاصةً النساء منهم.

إن اهتمامي بمحاربة الجوع بين الفقراء ينبع من والدتي المغفور لها بإذن الله جلالة الملكة علياء - رحمها الله - التي عملت بتفان لهذه القضية وألهمتني لإنشاء منظمة غير حكومية في الأردن باسم "تكية أم علي" تكريماً لها. لقد تعلمت منها أيضاً أن الحياة هشة للغاية وفانية. ولا يمكن لأي منّا أن يعرف عدد حبات الرمل المتبقية في الجزء العلوي من الساعة الرملية لحياتنا، وكم منها قد مضى. إن الدروس التي تُعلِّمنا استخدام وقتنا بحكمة هي بالتأكيد أصعب دروس الحياة.

لقد عملت تكية أم علي بشكل أساسي كمبادرة محلية، أي أن الأردنيين يطعمون الأردنيين. ومع نهاية هذا العام، سنكون قد وصلنا إلى كل أسرة ينقصها الدخل اللازم لتوفير الغذاء المناسب، وسنحقق الهدف الإنمائي للألفية الخاص بالجوع في الأردن. ولكن هذه هي فقط نقطة البداية، ونحتاج لتحقيق المزيد.

أما فيما يخص جهود الأمم المتحدة بهذا الصدد، فقد أعجبني التقدم المُحرز في مجال محاربة الفقر والجوع والمرض. وعندما كنت سفيرة لبرنامج الأغذية العالمي، أذكر أنني قد زرت مستشفى في بلانتاير (مالاوي) وكان مكتظاً بالسيدات والأطفال. كانوا يعانون من قسوة الجوع ومعظمهم لديهم مرض الإيدز.

في ذلك الوقت، لم تتوفر هناك أية أدوية مضادة للفيروسات في مالاوي. وأنا على يقين من أن جميع الأطراف المعنية ستنكر هذا اليوم، ولكن، كان هناك جدلٌ في الأمم المتحدة وبين الجهات المانحة عن جدوى إطعام هؤلاء الناس من الأساس. لقد كان مصيرهم الموت، فلماذا العناء؟ لم يكن هناك علاج للمرض، والأدوية التي كانوا بحاجة إليها كانت باهظة الثمن.

ولكن الإنسانية بداخلنا انتصرت في النهاية.

أطعمنا تلك الأسر، ومنحناهم الوقت. واليوم، الملايين من الناس في إفريقيا يتناولون الأدوية لإنقاذ حياتهم. ولكننا لم نقم بما فيه الكفاية، وأعود مرة أخرى إلى حقيقة أن الساعات الرملية في حياة هؤلاء المستضعفين لم توضع جانباً لحين اتخاذنا الخطوات القادمة.

والسبب الثاني لشعوري بعدم استحقاقي الوقوف هنا اليوم هو أن هذه الجائزة قد مُنحت للشخص الخطأ. في الحقيقة، إن زوجي صاحب السمو الشيخ محمد هو من يستحق تسلم هذه الجائزة ولولا دعمه وكرمه لم أكن لأتمكن من تحقيق ولو شيئاً بسيطاً مما قمت به.

في العام الماضي مثلاً، تمكننا من إطعام حوالي 300 ألف شخص في مخيمات غزة في الوقت الذي دمر فيه القصف الإسرائيلي المدينة. ونظمت تكية أم علي المساهمات في الأردن وجمعت المواد التموينية خلال أيام من بداية القتال. كما نظّم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد جسراً جويّاً من طائرات 747 وC130 من المدينة العالمية للخدمات الإنسانية في دبي إلى عَمَّان لنقل مواد الإغاثة إلى الأونروا، من الخيام وأجهزة تنقية المياه والبطانيات والأهم من كل ذلك – تأمين الغذاء إلى غزة. لقد نشأت المدينة العالمية للخدمات الإنسانية على يد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، وهي الآن أكبر مركز لوجستي في العالم في مجال تقديم المساعدات، وهذا بدوره قد لعب دوراً بالغ الأهمية في الاستجابة الأولية للأزمات في العالم ومنها في سوريا وأفغانستان وهايتي، والآن في اليونان.

أثناء عملي مع الأمم المتحدة، قابلت بعض الأشخاص الرائعين وأحدهم كان المايسترو بافاروتي وزوجته الحبيبة نيكوليتا، التي بدأت روح العطاء لديها في الانتشار، وهي من كان ليفتخر بها لوتشانو بافاروتي، وتقتدي بها ابنتهما أليشيا.

تتضمن قائمة الأبطال الخاصة بي العاملين في مجال الإغاثة في منظمة أطباء بلا حدود، وبرنامج الأغذية العالمي، والأفراد المشاركين في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والصليب الأحمر، والهلال الأحمر، وغيرهم الكثير. فهم يعملون في ظروف صعبة دون تلقي ما يستحقونه من تقدير، بينما يستحق كل واحد منهم كل التقدير والاحترام والدعم.

ولكن ليس السؤال هنا هو ما الذي أجدنا فعله، ولكن كيف بإمكاننا أن نفعل المزيد ونحن نسابق الساعة الرملية للقضاء على الفقر والجوع والمرض؟

إن منهجنا في تقديم المساعدة يحتاج إلى أن يكون أكثر إبداعاً وأن يشجع على الابتكار. لقد أسس صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد مؤخراً مؤسسة مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية ليتم ضم أعمال 28 منظمة من منظمات دبي التي تركز على محاربة الفقر والمرض ونشر المعرفة والثقافة وتمكين المجتمع وتشجيع الابتكار.

وسوف تطلق المؤسسة أكبر وأشمل برنامج إنمائي في المنطقة العربية وستستثمر في البحث الطبي وفي المبادرات التعليمية والعلمية والمبادرات التي تركز على المعرفة.

تفتخر دبي والإمارات العربية المتحدة بتشجيعهما للإبداع في مشروعات الأعمال والعمل على الحد من العقبات السياسية والاجتماعية أمام النمو الاقتصادي. وقليلون هم من يعلمون أن دولة الإمارات قد أصبحت في المرتبة الأولى من بين الجهات المانحة في العالم، وذلك لأنها تُقدِّم سنويّاً ما مقداره 1.2 بالمائة من إجمالي دخلها القومي كمعونات خارجية لأكثر من 100 بلد، أي ما يعادل حوالي 5 مليار دولار، وذلك من دولة يبلغ عدد سكانها 8 مليون نسمة فقط.

أفتخر بشدة بقيادتنا لهذا الالتزام المشهود الذي إذا تمكنت كل دولة من مضاهاته، سيكون لدينا ما يكفي من الأموال للقضاء على الجوع والفقر ومكافحة التغير المناخي.

ولكن مهما بلغ كمّ العطاء من المانحين، لن ننجح في القضاء على الجوع والفقر حتى نفتح أذهاننا ونحاول أن نفهم بشكل أفضل الناس الذين يختلفون عنّا في العادات والتقاليد.

وعندها فقط سنحرر طاقات قادتنا من الحلقات اللانهائية من المناورات الجيوسياسية والعنف، والذي سيمكننا من توجيه التركيز نحو الجانب الإنساني.

وأيضاً عند تحقق ذلك فقط سيتمكن أطفالنا وأحفادنا من التطلع إلى مستقبل يليق بهم، والتطلع إلى مستقبل تتفوق خبراتهم الإنسانية المشتركة على الاختلافات الموجودة فيما بينهم.

وشكراً لكم.

-انتهى-