19 Nov 2015

كلمة قبول جائزة "الطريق إلى السلام"

معالي رئيس الأساقفة/ أوزا،

أصحاب المعالي والسعادة والعطوفة،

السيدات والسادة؛

 

إنه لشرف عظيم لي أن تستضيفني بعثة الكرسي الرسولي لدى الأمم المتحدة.

إنني أدرك تماماً أن كثير من الناس، بمن فيهم بعض الحاضرين في هذه القاعة، قد كرسوا كامل حياتهم لتحسين الأوضاع الإنسانية، وهم بلا شك أكثر استحقاقاً مني للتكريم والتقدير.

وإنني إذ أقبل هذا الشرف بالنيابة عنهم.

لقد سبق وتحدثت في الأمم المتحدة عن الجوع والفقر، وكنت قد أعددت بعض الكلمات حول هذا الموضوع القريب إلى قلبي، لأشاركها معكم.

لكن موضوع الليلة يدور حول "الطريق إلى السلام". وبصفتي سفيرة للأمم المتحدة للسلام، فإنني أشعر أن هناك رسالة أخرى ينبغي علي إيصالها بهذه المناسبة.

في ليلة الجمعة، كانت صلواتي قبل أن أنام موجهة إلى إخوتي وأخواتي العرب في بغداد وبيروت، المدينتين اللتين تتعرضان للاعتداءات الوحشية على أيدي المتطرفين الذين لا تعرف قلوبهم للرحمة طريقاً؛ فقد دُمِّرت الأسر، وقُضي على المستقبل.

وأستلقي في الظلام وأنا أفكر في المحنة القاسية التي يعيشها اللاجئون السوريون والعراقيون والتحديات التي تواجه عدداً من البلدان الشُجاعة - سواء في منطقتنا أو خارجها – من الذين فتحوا قلوبهم وحدودهم لمنح هؤلاء الأفراد اليائسين شعوراً بالأمل والراحة.

وفي اليوم التالي، وعلى غير العادة، فقد كانت السماء في دبي صافية وزرقاء حتى الأفق، وكانت نسمات المحيط الخفيفة تحمل معها زقزقة العصافير.

يوم جديد يبدأ،

ولوحة بيضاء فارغة،

ووعد بالأمل،

وبعد ذلك قمت بالإطلاع على نشرة الأخبار.

ومثل الكثيرين منكم في هذه الغرفة، فقد كنت امرأة باريسية في يوم من الأيام.

لقد عشت في باريس لمدة عامين، حيث تدربت كرياضية محترفة ضمن استعداداتي للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية في سيدني. وقد تجولت على أرصفة باريس؛ وتناولت الطعام في مطاعمها؛ وتركت نفسي هائمة في وهج أضوائها؛ كما استمتعت بحضور العديد من الحفلات الموسيقية والأحداث الرياضية فيها.

كما أني كنت في باريس أيضاً عندما التقيت لأول مرة بالرجل الرائع الذي أصبح فيما بعد زوجي ووالد أطفالي.

ومثل الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم، لقد شاهدت شاشة التلفزيون بِرُعب عند ظهور تفاصيل أحلك الليالي في مدينة النور.

وفي الأيام التالية، سألت نفسي مراراً، كيف يمكننا أن نضمن عدم السماح للمتطرفين بتفتيت عالمنا باللعب على أوتار الثقافة والدين؟ وكيف يمكننا أن ننظر إلى السلام دون الانجرار إلى دائرة العنف؟

ولكن من الواضح، أنه لا توجد إجابات سهلة على هذه الأسئلة الصعبة للغاية.

إن العالم المتحضر بأسره يعمه الحزن الآن بسبب الخسائر في الأرواح، ويملؤه الغضب على الجناة؛ بل إن المباني والآثار حول العالم ومنها –

برج العرب في دبي،

وبوابة براندنبورغ في برلين،

وجسر البرج في لندن،

وبرج لؤلؤة الشرق في شنغهاي،

وتمثال المسيح المخلّص في ريو دي جانيرو،

ودار الأوبرا في سيدني،

ومبنى مركز التجارة العالمي هنا في نيويورك – جميع هذه المباني قد تزينت بضوء العلم الفرنسي ثلاثي الألوان.

عندما تبحث عن الإنسانية، سيكون هناك ومضات من الضوء التي لا يمكن إطفاؤها: سيكون هناك وعد ببزوغ الفجر بعد مرور أحلك الليالي.

هذه الومضات المتمثلة بروح العزيمة العالية التي لا تنكسر هي التي تتخلل ظلام الليالي الحالكة، لتُظهر لنا أن مواطني مدن العالم يبقون أعظم من المتطرفين الذين يهددونها.

ومنها أصوات الجماهير في استاد دو فرانس التي ارتفعت للتعبيرٍ عن إصرار يتحدى صوت تفجير القنبلة.

وسكان باريس الذين اصطفوا في الطوابير من أجل التبرع بالدم صباح يوم السبت.

والمغردين على "تويتر" الذين وفروا المأوى لأي شخص يحتاج إليه، حيث فتحوا منازلهم حتى في هذا الوقت المرعب، عبر وسم الباب المفتوح "#PorteOuverte".

وذلك بالإضافة إلى سائقي سيارات الأجرة الباريسية الذين أطفأوا عدادات مركباتهم وقاموا بإيصال الركاب إلى منازلهم - أو إلى الأمان – بالمجان.

وعند حصول الجرائم المروعة، فإن شعوب العالم يبحثون عن الحقيقة الأفضل ويتمسكون بها في أوقات عدم اليقين؛ أو يتوجهون إلى الفن والشعر لفهم التعقيدات المتمثلة في الخسارة العميقة التي عانى منها أقرانهم من بني البشر.

لا يتعين على المرء أن يبحث بعيداً للعثور على الإنسانية في أكثر الظروف المروعة. وتلك القصص هامة لأنها تخبرنا وتطلعنا على الروح الإنسانية التي لا تنكسر، وهي الروح التي ستمكننا في النهاية من هزيمة العدو الشرس والذي لا يرحم. وكما قال مارتن لوثر كنج: "لا يمكن طرد الظلام بالظلام، إن الضوء فقط هو الذي يمكنه القيام بذلك، ولا يمكن للكراهية أن تطرد الكراهية، إن الحب فقط هو الذي يمكنه أن يفعل ذلك."

وحيث أننا نحزن للضحايا الذين سقطوا في باريس، دعونا أيضاً ألا ننسى الضحايا الآخرين الذين وقعوا ضحايا للعنف المتطرف؛ إذ لم تحظ عمليات القتل الهمجي في بيروت وبغداد بالانتباه العالمي الذي حققته هجمات باريس، على الرغم من أن الأرواح المفقودة لها نفس القدر من الأهمية - ويجب أن يكون حزننا وغضبنا كذلك قوياً.

إن التضامن الذي يُظهره العالم لأعمال الإرهاب في الغرب يجب أن يمتد إلى جميع أنحاء العالم.

إنه من المشجع رؤية الارتباط العالمي عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي. حيث اكتسب الوسمان "#beirut2paris" و"#ArabLivesMatter" على تويتر، اللذان انتشرا أولاً في العالم العربي، قوة جذب تتجاوز حدود منطقتنا.

إننا جميعاً - وخاصة زعماء الدين والسياسية، وغيرنا ممن هم في مواقع المسؤولية - ملزمون بإدانة الأيديولوجيات المنحرفة التي تشجع على العنف ضد شعوب تؤمن بديانات أخرى أو تنحدر من جماعات عرقية مختلفة.

فلا يُهِم إذا كان هذا العنف يحدث في باريس، أو بيروت، أو بغداد، أو نيجيريا، أو ميانمار، أو الهند، أو الصين، أو الضفة الغربية. ولا يُهِم إذا كان الضحايا من المسيحيين أو الهندوس أو المسلمين أو اليهود أو من أتباع الديانات الأخرى.

يبقى الكثيرون ممن هم في مواقع المسؤولية صامتين في وجه التطرف. والأسوأ من ذلك هم أولئك الذين يساهمون في المشكلة من خلال استغلال التوترات العرقية أو الدينية لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية.

ولا تعتبر كراهية الأجانب أو التمييز رداً على التطرف، لأن أعداؤنا في طريق السلام هم المتطرفون الذين يعملون تحت ستار الدين، وليس الأتباع المخلصين لديانة ما.

وقد تحدث قداسة البابا فرانسيس ببلاغة حول الحاجة إلى تجنب إدانة عقيدة كاملة بسبب التصرفات الملتوية للمتطرفين الذين يزعمون الولاء لهذه العقيدة.

وقال البابا فرانسيس: "نحن نعلم أنه في محاولة التحرر من العدو الخارجي، قد ننخدع برعاية العدو الداخلي. كما أن محاكاة الكراهية والعنف ضد الطغاة والقتلة هو مجرد طريقة للحلول مكانهم، وينبغي أن يكون ردنا من خلال الأمل والإصلاح والسلام والعدالة بدلاً من ذلك ".

كمُسلمة، كانت ردة فعلي الأولى على أحداث الأسبوع الماضي هي الغضب، إذ أردت أن أصرخ بكل جوارحي في وجه أولئك الذين يدعون أنهم يقتلون من أجل عقيدتي: "ليس باسمي!" ليس باسم عائلتي!"

إن الطريق إلى السلام هو طريق التسامح. ولا يمكننا التغلب على الإيدولوجية المنحرفة باستخدام السلاح، حيث أن الطريقة الوحيدة للتخلص منها هي من خلال إيدولوجية أقوى وأكثر مصداقية.

وكما قال زوجي صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم:

"لا يوجد سوى شيء واحد يمكن أن يمنع شاباً انتحارياً مستعد للموت من أجل داعش: هو وجود أيديولوجية أقوى ترشده إلى الطريق الصحيح وتقنعه بأن الله خلقنا لتحسين عالمنا، وليس لتدميره ... في معركة العقول الحالية، تبرز أهمية المفكرين والعلماء الذين يمتلكون مكانة روحية وفكرية بين المسلمين لقيادة هذه الجهود."

وليس المسلمون وحدهم من يحتاجون إلى الانخراط في معركة العقول؛ بل أتباع الديانات كافة.

قبل أن أغادر دبي إلى نيويورك، أخبرني الشيخ محمد قصة عن والده، الذي كان عقله سابقاً لعصره، والذي وضع قواعد تأسيس مدينة دبي الحديثة.

قبل عدة سنوات، عندما تبرع الشيخ راشد بقطعة أرض لبناء أول كنيسة في دبي، سأل المتشددون الغاضبون كيف يمكن أن يسمح الشيخ راشد بذلك. وكان رده عليهم بناء مسجداً بجوار الكنيسة. وقال للمعارضين، "من يريد الذهاب إلى المسجد، فليذهب، ومن يريد الذهاب إلى الكنيسة، فليذهب."

واستمر الشيخ محمد في بناء دبي بروح التسامح والسلام واحترام التنوع الذي أسسه الأباء المؤسسون – وذلك بإيجاد بيئة يستطيع الشباب العربي من خلالها استعادة الأمل في هذه الأوقات العصيبة.

هذا هو نوع القيادة التي نحتاجها، وخاصة من أبناء النبي إبراهيم، لنتمكن من هزيمة التطرف.

إن الصور الزرقاء والبيضاء والحمراء التي أضاءت المباني حول العالم في نهاية هذا الأسبوع هي نور الأمل في مواجهة قوى الظلام، وهي الوعد بفجرٍ جديد بعد ليلةٍ مأساوية مليئة برائحة الموت.

إن قلوبنا مكسورة، ولكن إنسانيتنا ما زالت بخير. ولذلك، فإن البناء على هذه الروح التضامنية الموجودة في أعقاب الأزمات هو المفتاح لهزيمة إيديولوجية لا تعرف الرحمة وإيدولوجية مُفلسة أخلاقياً.

وفي نهاية المطاف، سيتغلب الضوء على الظلام.

يتطلب التسامح تفكيك الجدران التي تفرق بيننا. فإذا فعلنا ذلك، سوف نجد أننا جميعاً بشر لدينا مشاكل ومتاعب ومعاناة متشابهة.

لقد كان هناك ما يكفي من الدمار والموت والهدر.

وأنا كهاشمية أرفض استخدام أي شخص لأي أساليب متطرفة والادعاء بأنهم مثلي من نسل النبي إبراهيم.

وأكرر: إن هذه الأفعال ليست باسمي. أبداً ليست باسمي.

وليس لهم الحق في أن يحددوا مستقبل أبناءنا وأحفادنا من خلال الأعمال الدموية.

لقد حان الوقت لأن نعمل نحن أبناء النبي إبراهيم الحقيقيين والأشخاص الصالحين في جميع أنحاء العالم، من أجل التغلب على قوى الظلام.

وشكراً لكم.

-انتهى-