06 Oct 2010

فلم لا يأكلون الكاتو؟

الاقتباسات هفينغتون بوست لا ليبر، بلجيكا لي تا، سويسرا لو دوفوار، كندا بيرجينز تيدنديه، النرويج ماسيودون تولوفايسوس، فنلندا داجنز إندستري، السويد يلاند بوستن، الدنمارك   ***

  لم يسبق أن بلغت الفجوة في فهم المؤسسات السياسية العالمية لواقع الجوع لهذاالقدر من الاتساع منذ إطلاق تلك العبارة الشهيرة بقسوتها التي تنسب للملكة ماري أنطوانيت إبان الثورة الفرنسية. فنحن ببساطة لا نفهم هذا الواقع. بل إننا نادراً ما نتحدث عنه. قد يبدو غريباً أن يصدر هذا الكلام من أميرة أردنية، لكنني بصفتي سفيرة للسلام من الأمم المتحدة فقد آليت على نفسي أن أفهم لماذا ما زال 925 مليون إنسان منا ليس لديهم ما يكفي من الأكل والتعرف على بعض أؤلئك الناس. فقد وجدت بأننا كلما تعرفت على واقع الجوع أكثر، زاد الأمر تعقيداً. فقبل بضعة أسابيع زفت منظمة الغذاء والزراعة العالمية بكل فخر بُشراها بأن عدد من يعانون من سوء التغذية في العالم قد انخفض إلى ما دون 1 مليار – وهذا أول انخفاض سنوي يتحقق منذ 15 سنة. ثم ما لبثت أن جاءت هذه الأرقام لتدعم الرأي الذي خرجت به قمة الأمم المتحدة في نيويورك بأننا نحرز تقدماً حقيقيا نحو تحقيق الأهداف التنموية للألفية في مكافحة الفقر والأمراض.

لعلنا كذلك من جوانب عدة، لكن التقدم الحقيقي بالنسبة للجوع يكاد يكون معدوماً. فنحن أساساً، نهنئ أنفسنا هذه السنة لأنه على خلاف العادة لم يزدد الأمر سوءاً. كل ما يفعله السياسيون في حياتهم هو إطلاق الوعود. وكما قال أحد المسنين الأذكياء من الروس ذات مرة: "نحن السياسيين أعجز من أن نساعد أنفسنا. فنحن نعد بتشييد الجسور، حتى فوق الأماكن التي ليس بها أنهار". والأهداف الإنمائية للألفية ربما تكون أعظم وعود أُطلقت على مر التاريخ – لكن هذه المرة يوجد نهر حقيقة. لكن حين تبنينا هذه الأهداف عام 2000 كان عدد الجوعى في العالم 830 مليون إنسان. وها نحن بعد عقد منذ ذلك التاريخ، ورغم الانخفاض الأخير، نجد أنفسنا أمام 925 مليون جائع. فكيف يعتبر هذا تقدماً؟ يبدو أننا كنا نضلل أنفسنا بشأن الجوع طوال عدة عقود. وأذكر حين كنت فتاة صغيرة، زار هنري كسنجر والدي الملك حسين في عمّان وهو في طريقه إلى روما. وكان العالم آنذاك يعاني من أزمة غذائية، وكانت الولايات المتحدة قد قلصت صادراتها من فول الصويا. وأطلق كيسنجر عقب ذلك تعهده التاريخي بأنه في غضون عقد من الزمان لن يذهب أي طفل إلى فراشه وهو جائع. وأنا على يقين بأن الناس رأت في ذلك مجرد سياسي آخر بوعد آخر. لكن لا بد لنا من أن نقدر له إطلاق هذا الوعد الكبير – فحتى الأهداف الإنمائية للألفية لم تبلغ هذا الحد من الطموح. فهي لا تأمل أكثر من إنقاص حجم المعاناة بمقدار النصف تقريباً.

لكن للأسف، ما أن توارت الأزمة الغذائية في أواسط السبعينيات من القرن الماضي حتى ولى كبار المانحين والبنوك التنموية وجوههم وجهة أخرى مخفضين المخصصات التمويلية للزراعة بأكثر من 70 بالمئة، لاسيما بعد أن بدأت الثورة الخضراء تؤتي ثمارها في جنوب آسيا. ربما كان في الأمر بعض المنطق الظاهر حينها – بافتراض أنك لم تكن أنت بين الجوعى – لكن هذا كان خطأ وحشياً. فالزراعة لم يكن لها هذا البريق العصري المتقدم بين أهل الاقتصاد أو السياسيين في الدول النامية – بل كانت الجاذبية الأكبر من نصيب المطارات والسدود الضخمة والمصانع. والأسوأ من ذلك أن كثيراً من الخبراء ظلوا ينكرون المشكلة لوقت طويل، حتى مع ازدياد الأعداد. وكانوا يفترضون بأن النمو الاقتصادي العام وتوفير فرص العمل سيقضيان على الجوع – فلا حاجة للقلق بشأن المزارعين. لكن وفقاً لمنظمة الفاو وبرنامج الغذاء العالمي، بدأ عدد الجياع بالعودة للصعود فعلياً أواسط التسعينيات بمعدل يزيد على 4 ملايين إنسان سنوياً. ورغم ذلك فلم يعر أحد اهتماماً كبيراً للأمر حتى دفعت الأزمة الغذائية عامي 2007-2008 الأسعار إلى الصعود بشكل مدوٍ على مستوى العالم وتسارع معدل التزايد ليتخطى عدد المصنفين بين الجوعى حاجز المليار إنسان.

فمن هم "الجوعى"؟ في الواقع، معظم الناس يعيشون على حد الكفاف في الأرياف خارج نطاق اقتصادات السوق التي غزت العالم على مدى العقود القليلة الماضية. ولو أردنا أن نصور وجه الجوع لرأيناه في محيى فتاة ذات بشرة داكنة – ولهذا دلالة كبيرة في تفسير عدم اكتراث جزء كبير من العالم وسبب عدم وصول المساعدات إليهم بيسر وسهولة. فاحتمال أن تتعرض لسوء التغذية يزداد بحدة إذا قدر لك أن تولد أسوداً أو آسيوياً أو أنثى. كما أن عدداً متزايداً بسرعة من المصابين بسوء التغذية هم من ضحايا مرض الأيدز ومرض السل وعائلاتهم. لكنك لن ترى بين الجوعى عدداً مماثلاً من وجوه البيض أو الذكور. إن للجوع على ما يبدو أساساً من العنصرية والتمييز الجنسي. ولعل أسوء ما في المشكلة أنها أخذت تصبح خفية ويصعب تصديقها في عالم يزيد فيه عدد المصابين بالسمنة – البالغ 1.6 مليار – زيادة كبيرة على عدد الجياع. فإذا كانت طفلة في الثامنة من عمرها تعاني من الهزال وفقر الدم، فما الفرق الذي يمكن أن يحدثه ذلك في عالم الواي فاي الذي نعيش فيه؟ كيف يمكن أن يؤثر ذلك عليك؟ فظهور مناشدة للمساعدة الإنسانية من حين لآخر في مجلة التايم أو الإيكونوميست أو إعلان تلفزيوني لا يجعلها مشكلة حقيقية بالنسبة لنا. فهي ليست ابنتنا ولا تعيش حيث نعيش. لكنها في الحقيقة ابنتنا ولكل منا مصلحة في تحسين وضعها. ففقر الدم يضعف التطور العقلي لما بين 40-60 بالمئة من الأطفال في البلدان النامية وهو أكثر أشكال سوء التغذية انتشاراً، ويصيب نحو 2 مليار إنسان. ومن شأن القضاء على نقص الحديد في الجسم، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، رفع معدلات الإنتاجية القومية للدول بنسبة تصل إلى 20 بالمئة. فتخيلوا كل هذه القوة الشرائية.

إن الأطفال الأصحاء يصنعون اقتصادات وأسواقاً صحية معافاة نستفيد منها كلنا في نهاية المطاف. لذلك فعلى أولئك الذين لا يبالون بالمعاناة أن يدركوا على الأقل القيمة الاقتصادية في القضاء على هذه المعاناة. فما الذي يمكننا فعله لتغيير هذا الوضع؟ لقد قام المانحون والمحسنون من الجهات الخاصة بقيادة مؤسسة غيتس، بعد أن يئسوا من انعدام التقدم في مكافحة الجوع في أفريقيا عبر وكالات المساعدات وبنوك التنمية التقليدية، بالانتقال إلى ميدان الجوع وضخ الأموال في مبادرة التحالف من أجل ثورة خضراء في أفريقيا (أغرا) التي يرأسها كوفي عنان. وتعتبر أغرا، بميزانيتها التي تربو على 400 مليون دولار، أكبر مبادرة عملية لمكافحة الجوع في أفريقيا وهي مبادرة محلية. ويأتي على رأس أولوياتها توفير بذور جديدة للمزارعين لأن هذا كان مفتاح نجاح الثورة الخضراء الأولى التي انتشلت جنوب آسيا من براثن مجاعة شاملة.

وتمثل الذرة البيضاء الرفيعة Sorghum– وهي محصول مقاوم للجفاف يزرع في أفريقيا – الأمل الأكبر في إحداث نقلة نوعية سريعة. إذ يحصل المزارعون غير الأفارقة، من خلال بذور الذرة البيضاء المهجنة والسماد المناسب، على محصول يبلغ 7 أو 8 أضعاف ما يحصل عليه المزارعون الأفارقة. كما ان هناك مشاريع جديدة أخرى لصغار المزارعين – غالبيتها للنساء – ستساعد في استعادة خصوبة التربة وبناء الأسواق وتوفير أنظمة للري على نطاق صغير. ومن جانبها، قامت إدارة أوباما بزيادة ميزانيتها الخاصة بالتنمية الزراعية إلى 1 مليار دولار، كما قام البنك الدولي، إدراكاً منه لأخطاء الماضي، بمضاعفة محفظة قروضه التي يقدمها في مجال الزراعة. ومؤخراً، بدأت الدول العربية بمناقشة خطة ضخمة بقيمة 65 مليار دولار لزيادة الإنتاج الغذائي في ضوء حالات النقص في موارد المياه الحيوية وضخامة المستوردات الغذائية. كما شرعت بعض الحكومات الأفريقية بتبني منهجيات جديدة. فقبل بضع سنوات زرت مالاوي وكان الوضع الغذائي فيها مضطرباً على أقل تقدير، لكن هذا البلد تمكن لاحقاً من إنتاج فائض جيد بعد تبني نظام إعانات حكومية لدعم الأسمدة.

ولطالما تحالف كبار المانحين ضد أنظمة الإعانات الحكومية للمزارعين الأفارقة – متجاهلين أن حجم الإعانات الحكومية للمزارعين في الاتحاد الأوروبيوالولايات المتحدة واليابان يبلغ أكثر من 100 مليار دولار – متبعين في نصحهم للحكومات الأفريقية منهجية "افعلوا كما أقول، لا كما أفعل". ولم تزل مالوي تعاني وقد شهدت شيئاً من الجفاف هذا العام أيضاً، لكن هذه الحالة تمثل إشارة على إمكانية أن يحقق الأفارقة ربحاً من اعتماد إستراتيجيات جديدة. وختاماً، فلقد قامت كل من منظمتي أطباء بلا حدود واليونيسيف بجهود رائدة لتوسيع استخدام الأطعمة العلاجية الجاهزة للاستعمال RUTFلمكافحة الآثار المدمرة التي يتركها سوء التغذية على الأطفال دون سن الثانية. وهذا أمر في غاية الأهمية. فسوء التغذية في مراحل العمر الأولى بالغ الضرر ويمكن أن يؤدي إلى الإصابة بالتقزم والمشاكل العقلية التي يتعذر التغلب عليها حتى لو تحسن ما يتناوله الطفل من غذاء في مرحلة لاحقة من عمره. فالأطفال الجياع يواجهون خطر الإعاقات الدائمة مدى الحياة. لقد قامت اليونيسيف وحدها بتأسيس نحو عشرة مصانع في أفريقيا لإنتاج الأطعمة العلاجية الجاهزة للاستعمال محلياً كما أن برنامج الغذاء العالمي يتجه لدخول هذا الميدان أيضاً. لكن ما ينقص هو أن معظم السياسيين، باستثناء بعض التعابير الطنانة التي نسمعها في قمة الأهداف الإنمائية للألفية من حين لآخر، مازالوا بعيدين عن ملامسة وفهم حياة من يعيشون على شفير المجاعة. فهم لم يفلحوا في إعطاء الأولوية للغذاء في التنمية الاقتصادية وتمويل المساعدات في العالم. نعم هناك وعود تقطع، لكن قلما يتم الالتزام بها. ففي عام 2008، تعهدت مجموعة الثماني بتقديم 20 مليار دولار كمخصصات جديدة للزراعة – لكن منظمة الفاو تقول إن ما قدم فعلياً أقل من 500 مليون دولار. لقد آن الآوان للسياسيين أن يقدموا شيئاً أكثر من الوعود.