19 Nov 2014

المؤتمر الدولي الثاني بشأن التغذية - روما، إيطاليا

أصحاب الجلالة؛

أصحاب السمو الملكي؛

أصحاب المعالي والسعادة والعطوفة؛

السيدات والسادة؛

 

لا أشعر أنه من الصواب بأن أتشرف بالوقوف أمامكم كمبعوثة للسلام للأمم المتحدة والمعني بقضايا الجوع والفقر، في الوقت الذي يكون هنالك الكثيرون ممن يفعلون الكثير سعياً لمعالجة القضايا التي اجتمعنا اليوم لمناقشتها هنا.

هناك العديد من الأفراد المتفانين من برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الصحة العالمية ومنظمات أخرى جديرة، يعملون لخدمة المحتاجين. وآمل أن أوفيهم حقهم بايصال رسالتهم والتعبير عن محنة هؤلاء الذين يعانون من الجوع، بنيّة صادقة وعلى نحوٍ مفصل أمام هذا الجمع رفيع المستوى.

ولا بدّ لي أن أنوّه أن هذا المؤتمر، "المؤتمر الدولي الثاني بشأن التغذية" هو التجمع الأول من نوعه في القرن الحادي والعشرين، وتعود جذور المشكلة التي نناقشها اليوم إلى بداية البشرية. وكما يبدو جلياً من خلال الاطلاع على جدول الأعمال، فإن هذه القضايا معقدة وتنطوي على نطاق واسع من المشكلات المتعلقة بالتغذية.

يوضح إعلان هذا المؤتمر الدمار الإنساني والمجتمعي الذي يسببه سوء التغذية. لقد رأيتُ هذا الدمار عدة مرات في عدة أماكن، وما يدعو إلى السخرية أنه دائماً يأخذ نفس الصورة.

منذ أربعة أشهر، قابلت سيدة في إثيوبيا، بعد إنقضاء عشرة أيام على نزوحها هي وأطفالها من وطنها المجاور في جنوب السودان هرباً من العنف العرقي. وقد سارت هذه السيدة وأطفالها 15 كيلو متراً بدون طعام أو ماء وتحت تهديد مستمر بالتعرض للهجوم، من أجل البحث عن مأوى في أحد مخيمات اللاجئين المكتظة التابعة للأمم المتحدة خارج جامبيلا.

لم يكن لديها أدنى فكرة عن مكان زوجها أو حتى إن كان على قيد الحياة أم لا.

أثناء حديثها، جلست القرفصاء على الأرض الموحلة بين مئات السيدات الأخريات، تحمل طفلها على حجرها، وتنتظر وعاءً من الطعام. قالت لي: "أنا إنسانة عادية مثلك، حياتي كانت طبيعية." ولم يكن لها إلا أن تتشبث بكرامتها لتعينها على تخطي الجحيم الذي كانت تعيشه.

لقد قابلتها في يوم جيد، حيث أنها كانت تقف في الطابور للحصول على الطعام، على الرغم من أنه لم يكن كافياً، ولكنه طعام. وما زال حديثها يطاردني حيث أنها اضطرت للسير عشرة كيلومترات كل صباح للحصول على الماء. وأعلم أنها كانت تخاطر بتعرضها للاعتداء الجنسي في كل ليلة عند سيرها في الظلام الدامس كي تصل إلى المراحيض. وإن لم تقبل بهذه المخاطرة فهي تجازف بالسلامة الصحية في الخيمة التي تقيم فيها وتعرِّض أطفالها لخطر الإصابة بالأمراض.

هل تعلمون ما الذي يطاردني أيضاً؟ في كل مرة أذهب في زيارة مثل هذه، هؤلاء الأشخاص الذين يعانون هم الذين يحتفون بي وبوجودي معهم. إنهم يعتبروني مصدر أمل بالنسبة إليهم. ويبتسمون لي. وينشدون لي الأغاني. ينشدون لي الأغاني وهم يتضورون جوعاً. وفي أحيانٍ أخرى، فإن الأشخاص الذين أقابلهم هم الذين يمنحوني الأمل. ففي ليبيريا في أوائل هذا العام، رأيت سيدات مفعمات بالنشاط والحيوية وملتزمات بالتغلب على الجوع. لقد كانت النساء يزرعن المحاصيل ويطحنَّ الحبوب ويشققن طريقهن للخروج من غمامة الحرمان من الغذاء. غادرتُ ليبيريا وأنا أشعر بالتفاؤل تجاه مستقبل هذا البلد، خاصةً بعد أن التقيت برئيسة البلاد إلين جونسون سيرليف.

بعد بضعة أسابيع، انتشر مرض الإيبولا. من يعلم كم من القدرات البشرية قد فُقدت منذ اندلاع ذلك المرض؟ أحياناً يُظهِر المرض نفسه في أقسى صورة ممكنة، في لحظة انتصاره الكامل. لقد شهدتُ هذا الجانب من الجوع في ملاوي، وقد كان شرساً.

عندما قابلتُ أحد العائلات هناك، كان الأب قد وقع ضحية للجوع وبقيت الأم تكافح وحدها بالمنزل مع أطفالها الخمسة، حتى قادهم الجوع إلى رحلتهم الأخيرة للمستشفى.

عندما رأيتهم، لم يكونوا أطفالاً بقدر ما كانوا هياكل عظمية ممددة على أربعة أسرّة معدنية حول الأم التي احتضنت طفلتها الصغيرة بين ذراعيها. لم يقدر أي منهم على الحديث. ولكن بقبضة يد صغيرة وبنظرة ترحيب رقيقة في عينيّ الرضيعة علمتُ أنها تعي ما حولها وتنتظر رحمة الموت.

لم تبالي الأم بإصابتها بالإيدز الذي كان يقودها إلى الموت. فقد كانت تنتظر بهدوء أن تمضي ابنتها الرضيعة من هذه الحياة قبل أن يحين وقتها هي. بعد أن انتقلتُ إلى الغرفة المجاورة في عنبر المستشفى، سمعتُ أقسى نبرات الألم التي ستفهمها أي أم.

عندما عدتُ إليها، رأيتُ الأطباء يحملون جثة الطفلة في كيس بلاستيكي أسود. انتقلت الأم لسرير آخر حتى تحتضن طفلاً آخر من أطفالها الأصغر سناً، وهي على أمل أن تتحمل ألم فراقهم قبل أن يأتي موعدها. كان الأمر وكأن تلك الطفلة الصغيرة، تلك الروح الضعيفة الهزيلة ذات العينين الكبيرتين المعبرتين، لم تكن موجودة يوماً. كان شبح الجوع يطارد كل من في المستشفى إلى أن يقرر من سيكون ضحيته التالية.

بعد أن رأيت كل هذه المشاهد التي لا يمكن أن أنساها أبداً، ليس أمامي سوى أن أؤيد تماماً خاتمة إعلان هذا المؤتمر، وهي أن سوء التغذية هو "تحدٍ كبير أمام التنمية المستدامة".

إن هذه العبارة صحيحة بالتأكيد، ولكنها لا تعبر عن الحقيقة كاملة. فسوء التغذية ليس مجرد تحدٍ أمام التنمية المستدامة، بل هو خطر يهدد الأمن العالمي، خطر علينا جميعاً حتى لهؤلاء منا الذين يتوفر لديهم الغذاء الجيد والذين لا ينبغي أن يقلقوا بشأن إطعام أسرهم.

هناك جانبان لسوء التغذية: الجانب الأول هو المليار شخص تقريباً الذين لا يجدون الطعام الكافي، والجانب الثاني هو تزايد أعداد الأشخاص الذين يفرطون في الأكل أو يفرطون في تناول الأنواع السيئة من الطعام.

نحن نعيش في عالم من الإفراط والحاجة، عالم يعيش فيه هؤلاء الذين يمتلكون أكثر مما ينبغي وآخرون يمتلكون أقل مما ينبغي. ومن هذه الناحية، لم يتغير الكثير منذ انعقاد المؤتمر الدولي الأول بشأن التغذية منذ أكثر من عقدين، والذي افتتحه البابا يوحنا بولس الثاني مستنكراً ما أطلق عليه "مفارقة الوفرة" التي تترك مئات الملايين يعانون من الجوع وسوء التغذية بالرغم من وفرة الغذاء.

لقد عُقد مؤتمر 1992 بعد ثلاث سنوات من سقوط جدار برلين، وفي نهاية الحرب الباردة التي خلقت جواً من التفاؤل. وقد تنبأ إعلان المؤتمر النهائي أن "تقليل التوترات الدولية سيمنحنا فرصة لم تحدث من قبل لإعادة توجيه مواردنا" إلى الفقراء والمحرومين والمستضعفين.

في وقتنا الحاضر، أدت الصراعات حول العالم إلى نزوح أكثر من 51 مليون شخص، وهو أعلى رقم منذ تسجيل إحصاءات شاملة للمرة الأولى في 1989.

ولا يزال الجوع موجوداً بيننا.

اليوم، يعاني حوالي 805 مليون شخص من الجوع أو نقص التغذية. كما يعاني ما يقارب 160 مليون طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية المزمن، وأكثر من 50 مليون منهم مصابون بالهزال بسبب سوء التغذية الحاد.

ولكننا نعي الآن أكثر من أي وقت مضى أثر سوء التغذية على المجتمع والأفراد.

يؤثر مرض فقر الدم - وهو منتج ثانوي من سوء التغذية ويعيق التطور العقلي - على حوالي 40% من الأطفال في البلدان النامية. وتقدِّر منظمة الصحة العالمية أن القضاء على المرض سيزيد من الإنتاجية الوطنية بنسبة تصل إلى 20%. فإن توقف النمو يؤدي إلى عواقب جسمانية وعقلية دائمة.

إذاً، كيف يمكننا أن نعالج مشكلتي سوء التغذية والجوع؟ علينا أولاً أن ندرك أننا لا نساهم في إنقاذ ملايين الأرواح فحسب، ولكننا أيضاً ننقذ أنفسنا. يبدأ الأمر بمهاجمة مشكلة الجوع وكأن حياتنا تعتمد على ذلك. علينا أن نقنع دول العالم بأن ينفقوا على المعونات الغذائية بما يوازي إنفاقهم على الأسلحة. لقد وجه زوجي صاحب السمو الشيخ محمد، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس الوزراء حاكم دبي، السؤال الصحيح عندما قال: "كيف يمكن لدول العالم أن تنفق ما يزيد عن تريليون دولار على الأسلحة في صراعها على الأرض والمذهب والدين، في حين أن هناك 300 مليون طفل يتضورون جوعاً؟" علينا أن نترجم الكلمات الواردة في إعلان روما بشأن التغذية إلى أفعال تُحدِث فرقاً حقيقيّاً في حياة الأفراد الذين لا يجدون الغذاء الكافي.

علينا أن نركز أولاً على الأشخاص الذين هم في أمس الحاجة إلى المساعدة. هؤلاء الأشخاص المحاصرون في قلب دائرة الجوع والفقر والذين يكافحون للبقاء على قيد الحياة.

إننا بحاجة ماسة إلى معالجة مشكلة سوء التغذية، تماماً مثلما لا نستطيع أن ننسى أبداً أن الجوع هو الجذر الأساسي للمشكلة. علينا أن نتعامل مع مشكلة سوء التغذية كما نتعامل مع مشكلة السمنة، ولكن ينبغي أن ندرك أنهما وجهان مختلفان للشر في هذا العالم.

يتناول الإعلان هذه القضايا، ولكن هذه الكلمات المطبوعة وحدها لن تساعد الفقراء أو الذين يعانون من سوء التغذية في العالم. بعيداً عن ذلك، فإن الأفعال فقط هي التي ستعطي لتلك الأرواح المفقودة حق الحياة التي تستحقها. وبدون قرار منّا لاتخاذ الإجراءات اللازمة، سيكون مصيرنا أن نتحول إلى أدوات في يد شبح الجوع.

ولا يسعني إلا أن أختم بقولي إنني حاولت أن أعرف اسم الطفلة الصغيرة في ملاوي، عسى أن يكون ذلك هو عزائي للأم عندما أخبرها بأنني لن أنسى اسم طفلتها أبداً. ولكن الإجابة التي فرضها شبح الجوع كانت مرعبة، فقد قالت لي الأم: "أردتُ أن أسمِّيها ولكن ما الفائدة؟ لقد كانت طفلتي الرضيعة فحسب، وكنت أعلم أنها لن تبقى."

وشكراً لكم.

-انتهى-